إلي رحمة
الله
الأستاذ
محمود الأزهار الندوي رحمه الله
1363-1427هـ
= 1944-2006م
بعد ما
عانى عوارضَ الحمّى نحو أكثر من أسبوعين انتقل إلى رحمة ربّه بمدينة «لكهنؤ» الأخ
الأستاذ محمود الأزهار الندويّ – رحمه الله – في نحو الساعة 9 من صباح الاثنين : 7/
شوال 1427هـ = 30/ أكتوبر 2006م عن عمر يناهز 62 عامًا؛ فكان يكبرني بـ 9 أعوام ؛
حيث كان من مواليد 1944م (1363هـ) فإنا لله وإنا إليه راجعون . خلّف وراءه إلى
جانب زوجته خمسة بنين و ثلاث بنات . وصَلَّى عليه بالناس بعد صلاة عصر اليوم
المذكور أمين عام ندوة العلماء فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، و وُرِّيَ
جثمانه بمقبرة المسلمين العامة بحيّ «دالي كنج» بمدينة «لكهنؤ» .
كان
الأستاذ محمود يمارس التدريس والأعمال العلمية الأخرى في دارالعلوم ندوة العلماء
منذ تخرجه فيها في شبابه الباكر، لم يبرحها قط ، رغم أنه كان من سكان إحدى
المديريات الشرقية بولاية «يوبي» وهي «بليا». وكان قد
اجتاز امتحانات الماجستير من جامعة «لكهنؤ» الحكومية
خلال عمله بدارالعلوم ندوة العلماء، كما حضر الدورة القصيرة لتدريب معلمي اللغة
العربية للناطقين بغيرها ؛ فكان زميلاً لي فيها . وذلك عام 1983م . ومن قبل ظلّ
يزاملني في العمل في جريدة «الرائد» العربية
الصادرة بدارالعلوم ندوة العلماء ؛ حيث كان يقوم بتنسيق صفحاتها وتصنيف موادّها
المنضدة حروفُها، وكنت حينئذ أكتب بخط يدي عناوينَها البارزة . وكان له – رحمه
الله – ذوق خاصّ في العمل التنسيقي للصحف والمجلات ، نشأ لديه طبيعيًّا ، وازداد
بالممارسة وطول الرحلة في العمل . كما عمل – رحمه الله – مدة نائبَ رئيس تحرير
لجريدة «تعمير حياة» الأردية
التي تصدر نصف شهرية ناطقة بلسان حال ندوة العلماء . وعمل منسقًا للأعمال في مكتب
رابطة الأدب الإسلامي العالمية بشبه القارة الهندية ، كما كان يعمل منذ السنوات
الأخيرة في قطاع الامتحاناتا بمكتب دارالعلوم ندوة العلماء للشؤون التعليمية . وكل
ذلك إلى جانب قيامه بتدريس المواد المتنوعة التي ظل يُكَلَّف تدريسَها .
وأحسنُ
شيء في شخص الأستاذ محمودكان صمته المطبق ، وهدءه وحلمه ، وتواضعه وتأنيه في كل ما
يقول ويفعل . مهما كانت الأحوال هائجة، وكانت الظروف مربكة ، كان لايهتزّ،
ولاينزعج ، ولايضطرب ، ولايبدو إلاّ على حالة عاديّة . وكذلك لم أره تبدو عليه
علامة للغضب قطّ ، لا أقول: إنه كان مجردًا من مادة الغضب ، ربما يكون قد غضب إذا
حدث ما يضطر الإنسان للغضب وإبداء ما يدل عليه ؛ ولكني لم أجده يبدو غاضبًا . وقد
تمنيتُ أكثر من مرة أن يطرأ عليه ما يدلّ على أنــه غاضب ، حتى أراه كيف يبدو في
حالة الغضب ؛ فقد سئمتُ تجربتَه في حالة الرضا .
وكان
مما يُمَيِّزه أنه كان ينقطع إلى القيام بما يُسْنَد إليه من الأعمال ، ويتحمّل كل
ما لايلاقيه من العنت والصعوبة في سبيل إنجازه ؛ فكان يتعامل مع العوائق والمشكلات
بدوره ، ولا يراجع في ذلك المسؤول عن التكليف بالعمل . وكان لايشكو ولايتعاتب،
وإنما كان سبيله في كل عمل ومسؤولية ملازمة الصبر وشق الطريق واختراق العوائق
بتعقّل عمليّ ولباقة تجربيّة وإيمان بنجاح المحاولة إذا صاحبتْها الثقةُ بالنفس و
صدقُ النية . كانت تعلو وجهَه براءةٌ لاتعلو وجهَ أيّ ممن يمتهنون الدهاء والمكر
لتحقيق كل غرض من أغراض الحياة . كان معروقَ اللحم ، طويل القامة، أشمّ الأنف ،
وكان قلبُه أوسعَ من قامته . إن قيمة كل إنسان تكمن في سلوكه الحسن وتعامله مع
الإخوان ، ومن هذه الناحية كان الأستاذ محمود كبيرًا . ربما يكون الإنسان عاديًّا
متواضعًا في عيون أغلب الناس الذين ينبهرون بمظاهر الناس وصيتهم الكبير، وشهاداتهم
العالية، وتفننهم في كسب لفتات المجتمع البشري ؛ ولكنه يكون كبيرًا في الواقع
بالنسبة إلى القيم الإنسانية الحقيقية التي تُرَجِّح كفّة حسناته يوم القيامة .
كان الأستاذ محمود عندي مُصَنَّفًا ضمن هذا النوع الكريم من الإنسان ؛ فكان لايحمل
شهرة «عالم كبير» أو «داعية شهير» ولكنه كان
يتمتع بكثير من الصفات المحمودة التي يفقدها كثير ممن يُصَنَّفُون «علماء
كبارًا» و«دعاة
شهيرين» .
ماعايشت
الأستاذ محمود ليله ونهاره بشكل يتيح لي أن أطّلع على كوامن نفسه وعلى ما يشكل
مفتاحًا لشخصيته في دارالعلوم ندوة العلماء إلاّ عبرالفترات المتباعدة بطول أسبوعين
، أوعبر النظرات في ممشاه بين مسكنه برواق سليمان وبين الفصول الدراسية وبين
جلساته المتقاطعة إلى سماحة الشيخ السيد أبي الحسن علي الندوي – رحمه الله –
المتوفى 1420هـ /1999م غير أني تمكنت من قراءة شخصه عبر رحلتنا الممتعة ذات الذكرى
الخالدة إلى الرياض لحضور الدورة القصيرة لمدة ثلاثة شهور لتدريب معلمي اللغة
العربية للناطقين بغيرها ، وكنا خمسة رفاق في السفر . ولم نُحَمِّل نحن الأربعة
الأستاذ محمود مسؤوليةَ إمارة الرفاق في السفر ، ولكنه بدوره تحمّلها عن جدارة
وأهلية لم أكن لأتصور فوقهما؛ فعبر رحلتنا من مطار دهلي إلى نزولنا بالمطار القديم
بالرياض ظلّ أميرًا لنا متطوعًا سبّاقًا لتقديم كل خدمة احتجنا إليها خلال هذه
الرحلة البكر إلى عاصمة دولة عربية محببة إلى المسلمين . وتجلّت في السفر مؤهلاتُه
غير العادية ليست بالنسبة لإمارتنا فقط بل بالنسبة إلى الخدمة التربوية والتأديبية
التي مسّت بنا حاجةٌ إليها مرات عديدة.
في
كل من مطار دهلي والدمّام والرياض كان الأستاذ يتسابق بدون إرشاد مسبق من أحد إلى
النافذة أو الناحية التي فيها كانت الخدمة المطلوبة تنتظرنا ، كأنه موظف يعمل ليل
نهار في هذه المطارات أو كأنه داوم السفر عبر هذه المطارات ؛ فيعرف كل شيء يوجد
فيها من المكاتب والأقسام.
وفي
مطار دهلي حَدَثَ أنّ أحد رجال الأمن خلال فحصه للركاب منعه من التقدم ؛ لأنه وجد
لحيته بيضاء على وجهه ، وسوداء بيضاء في صورة له ملصقة بالجواز . وكان الأستاذ
مصابًا بالزكام الذي كان لايفارقه في الأغلب ؛ حيث كانت بينه وبينه صداقة حميمة ؟
وأمثاله تبيض أشعارهم مبكّرا. فعندما عُمِلَ له الجواز منذ خمس سنوات كانت أشعار
لحيته أخلاطاً من السواد والبياض ، والآن كانت قد اشتعلث شيبًا . شيء بسيط يدركه
أي رجل عاديّ ؛ ولكن الشرطي المصاب بداء الكبر والأنانية لم يدركه . وكاد يمانعه
حتى تفوته الرحلة الجاهزة التي كنا قد حجزنا عليها المقاعد بعد جهد كبير ، إذ
طَلَعَ علينا ضابط من ضباط الأمن ، وقال للشرطي دَعْه يمضي لأنّ الرحلة تكاد تقلع
.
وفي
مطار الدمام كنا بحاجة إلى اختيار أولى رحلات متوجهة إلى الرياض ، ولو فاتتنا لبقينا
يومًا أو أكثر ، وتعرضنا لمشكلات أخرى . وما إن نزلنا من الطيارة القادمة من دهلي
حتى وصل الأستاذ محمود توًّا نافذةً من نوافذ صالة كبيرة ، كأنه كان منها على
ميعاد ، ومَرَّ بها مرات ؛ فجحز لنا المقاعد على أولى رحلة إلى الرياض ، فوصلنا
الرياض بحمد الله دونما عناء يذكر .
وخلال
إقامتنا بالرياض ظل يعاملنا معاملة الأخ الكبير مع الإخوة الصغار : كان يصطحبنا في
كل جولة ، ويجالسنا في كل قضية ، ويشاركنا في توزيع كل همّ ، ولا يقطع أمرًا دوننا
، ولا يضنّ بسرّ علينا . مما عَمَّقَ حبّه في قلوبنا ، ووطّد صلة الودّ السابقة ،
وزادها متانة على متانة .
ودعائي
له إلىربّي الكريم أن يهديه توًّا إلى جنته العليا دونما حساب كما هَدَانا في رحلة
الرياض دونما أجر ، ولم يمنّ علينا قطّ بذلك . إن ربّي رؤوف رحيم .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير
2007م ، العـدد : 12 ، السنـة : 30.